ابحث في المدونة

الأربعاء، 5 أغسطس 2015

خُسوف.




الفصل الأول


على ضفة النهر الغربية وقف وبيده ورود زنبق أبيض، مع اغصان البنفسج، ورسالة مكتوبة بخط أنيق على ورقة بردي عتيقة، ملفوفة بإتقان شديد بأغصان زهور ربيعية فواحة، لا تتواجد بكثرة في فصل الخريف. اطلق تنهيدة عميقة قبل أن يرفع رأسه للسماء، ابتسم لاستدارة البدر في ليلة تمامه.
انتظرها بشغف، وهو يرتب الكلمات المزدحمة في عقله. بدأ بالتمثيل وهو في انتظارها، ماذا يقول، كيف يقف، كيف ينظر إليها ! هل يجب ان ينظر في عينيها مباشرة، بالرغم من خجلها ! ام يحتضنها أولا ! بدت على اطرافه ارتجافة خفيفة بسبب ارتباكه وتوتره، وعلت محياه ابتسامة مترددة. اخذ نفسًا عميقاً ثم اخرجه، لعلَّ نبضاته تهدأ قليلاً، واخذ يعيد الكرة. نظر مرة اخرى إلى القمر وابتسم باتساع، لمعت عيناه المميزتان بلونيهما المختلفين. إحداهما كَأزهار الخزامى، التي يحملها برفق وحنو بالغين، والأخرى بلون عسل شفاف شديد النقاء، و التشعبات التي تتخلل حدقتيه هي الصفة المشتركة بينهما.

اليوم سوف يكون مختلفا جدًا، لم يحبني أحد كمثلها قط، ظل البشر يهربون مني بسبب لمعة عيني البراقة، واختلاف لونيهما، هي وحدها من وجدت عيني جذابتين جدًا. ﻻ اعلم كيف كنت اقضي ايامي قبل ان تحتل قلبي بأركانه كلها، كيف كنت اصارع ارقي مثقلا بالهموم، والآن بت انام خفيفا فارغا إﻻ منها، كيف كانت الايام تعصرني، وسخرية الاخرين وخوفهم مني تهشمني بلا هوادة. فأنا وحشٌ غريبُ أطوار,  كما يُطلق عليّ محليًا. لكن منذ أن استوطَنَتْ عقلي، و عمّرت قلبي و أنارت ظلمات روحي، وانا ﻻ اهتم الا لها, وبها. انها مختلفة جدًا، وحيدة بنات جنسها.
صوت غريب قطع تيار افكاره و حوار قلبه ، هو يعرف هذا الصوت جيدًا، لكن ليس هذا مكانٌ تتواجد فيه هكذا أصوات! التفت بهدوء شديد، لمعت امام عينيه انياب ضخمة، وعينان حادتان غاضبتان تتطايران شررًا، وأنفاسًا حارةً تلتهب وجهَهُ.


ذئبيٌ ضخمٌ يقف أمامه و يلهث بشدة ويحمل بيده شيء لم ينتبه نوتايدوس له جيداً, فقد كان مستغربًا وجودهُ في الضفة الغربية و حانقًا على أتم الاستعداد لقتله في آنٍ واحد. عقد نوتايدوس حاجبيه, و قطب جبينه, شدَّ قبضةَ كفّهِ على قائم سيفه تأهُبًا لاستلاله. ركّز بحدقتيه في عيني المخلوق الماثل أمامه وسرعان ما انتقل بعينيه إلى جسد ألقاه الذئبيّ قبل أن يزأر في وجه نوتايدوس بشدة ثم يثب راحلًا بسرعةٍ خاطفة. بدا الجسد المسجّى أمام نوتايدوس وكأنه خالٍ من الحياة. ارتجفت شفتي نوتايدوس والصمت يحيطه إلا من صوت جريان النهر, لكنّه لم يكن سامعًا إلا لنبضات قلبِه المكذّبة لما يراه, وكأن قلبُه سيخرج ويهرب منه. تجمدت أطرافه حين مرت عيناه على وجه هو يعشقه وقد خُدِّش بعنفٍ ويدان لُطِّخت كفيهما بسوادٍ ودماء, وبين أصابعها بضعُ خصلات من شعراتٍ شهباء, والخدوش تملأ الذراعين. كانت مرتدية زيًا باللون البنفسجي وقد تلطخ ببقع الدم جرّاء جراحها, وقد تمزق ردائها عن العضد والبطن وأجزاء من الكتف وانكشفت ساقُها حتى ما فوق ركبتها اليسرى. كأنها كانت في شباك عنيف. اتسعت حدقتي عينيه المضيئتين, في ملامحها الشاحبة, وازدادتا ضوءًا ولمعانًا وقد غطاهما بحر دمعه وكأنهما صورتي شمسٍ وقمرٍ معًا على صفحة النهر. زمّ شفتيه بشدة ثم همس بصوت متقطع, وقد استجمع قواهُ أخيراً : " اونِك !! " جثى على ركبتيه امامها واحتضن وجهها بكفيه, أخذ يردد اسمها بلا شعور ولم يكن يعي مايقول : " أونِك ! أونِك أنتي تسمعينني أنا متأكدٌ من ذلك, أجيبيني, لمَ لا تفتحين عينيكِ ؟!! " عيناهُ تدوران في الوجه الشاحب أمامه وهو يتحسس دفئها. " ما زلتي حية، اونِك، حبيبتي ! إستيقظي ارجوكِ حركي عينيك دون ان تفتحيهما انا اراكِ ".
صارت أفكار عقله تتوالى بسرعةٍ هائلة ونتيجة للألم الذي اعتصر قلبه فقد انهمرت زخات دمعه بغزارة. وضع يده تحت رقبتها, والاخرى تحت ركبتيها, حملها و صار يسير بدون توقف, وتارة يهرول. اراد ان يجري لكنه خشي ان تتألم لما رأى تقطيبات جبينها نتيجة سرعته في المشي وانحدار صوت أنفاسها المتعبة. امسك بها اكثر وشدها اليه وكأنه يحاول ادخالها الى صدره. عض شفته السفلية بقوة وعقد حاجبيه بعنف. " لمَ أصبح الطريق الى الطبيب طويلاً جداً !! أنتي بخير، أنتي بخير تماسكي قليلاً .. قليلًا فقط يا حبيبتي. نكادُ نصل .. "




الفصل الثاني

قبل ثلاثة ايّام، وقفت أمام عربة بائع الزهور المنشغل بإعداد شيء بين يديه ولم تكن ترى سوا ظهره. مدت شفتيها بخيبة أمل, حين لم تراه, " قال بأنه سيكون هنا .. ربما ذهب مكانًا و سيعود! فلأستفسر من البائع عنه !" حاولت رفع صوتها الهامس وهي تميل بجذعها الى الامام درجة, عاقدة انامل يديها أمامها بخجل, وحاجبيها مرفوعان بشغب اصاب جبينها بتقطيبة لطيفة " احم، احتاج مساعدة ". رفع رأسه المنهمك بباقة ورد ذات لون أحادي تقريبًا إلا من الاخضر الغامق ملتفتًا إلى الصوت الدافئ, الذي سرى خلال أذنه كأغنية جنيات ازهار الربيع, ليستقر في قلبه ويتردد صداه في أنحاء رأسه. صوتٌ مخمليٌ تشوبه بحة طفيفة يكاد هذا الصوت يُغيبه عن العالم. غاص في تفاصيلها وابتسامته تتسع " كيف أساعدكِ سيدتي ! " ابتسمت براحة مطرقة رأسها ثم تقدمت خطوتان. أنزلت ردائها المخملي عن رأسها برقة لتتساقط أمواج الليل معانقة وجهها البيضاوي بمرح. أزاحت بعض الخصلات خلف أذنها و ردت بابتسامة " هلّا أعرتني اياك، لوقتٍ طويلٍ يا سيد ؟! " ابتسم باتساع شديد وعينيه الملونتين تدوران في كل تفاصيلها. يعشق كلماتها المنمقة التي تهزمه غالباً بفصاحتها. اتكأ على العربة الممتلئة بأنواع الزهور ومال بجذعه الى الامام " بالتأكيد يا جميلتي، وقتي ما هو الا ساعة جيبك "  ابتسمت بخجل فارتفع انفها النحيل وغاصت عيناها الواسعتين. ذاب قلب نوتايدوس لتلك الحركة العفوية التي لطالما تعمد احراج اونِك لكي يستمتع بمنظرها ويبتسم بعمق. حمل العربة وسارا بجانب بعضيهما، خرجا من السوق الى مروج خضراء قرب النهر. كان الجو معتدلا يميل إلى البرودة، السماء المشوبة بالأرجوانية, تتخللها بعض السحب المبعثرة والشمس الباردة تحتجب خلفها وهي تميل غربًا مستأذنة بالرحيل. انها بدايات فصل الخريف، الاجواء هادئة والاطفال يلعبون فوق التلال الصغيرة او التلال القزمة كما تسميها اونك حين تحاول اغاضة نوتايدوس. تقل المنازل بعد التلال اﻻ من بعض البيوت الفقيرة المتهالكة وتكثر فوق التلة الأم كما يطلق عليها العامة - اكبر تلة في ذاك المكان - كانا يسيران وقد نسيا الوقت, او ربما شعرا أن الوقت قد توقف عندما التقت عينيهما ﻷول مرة ! يستمتعان بكل لحظة تمر عليهما معًا. وفي كل خطوة بجانب نوتايدوس, تشعر أونك بأجراس قلبها ترقص وكذلك نوتايدوس ينسى كل شاق ومتعب. حين يكون بجانبها ﻻ يكف عن التبسم. توقفت أونك فجأة وهي تسحب الهواء إلى رئتيها ووقفت أمام نوتايدوس تمامًا , عيناها تتأملانه وابتسامتها تنم عن حب ينضح من عينيها الواسعتين. نظرت إليه بشغف طفلة وحب متشبع بأعماق إمرأة قد سُلب قلبها تمامًا, عينيها تلمعان وتعكسان ما يدور في قلبها من شدٍ وجذب. تمنّت بداخلها كثيرًا أن لا تخلو ايامها من عيني نوتايدوس التي تملكتها وأشعلت فيها قناديل الدفء. إنه الأمان بالنسبة إليها فهو السراج الذي ينير طريقها في أحلك الظلمات والحضن الذي يحتويها، اليد التي تزيل عنها همومها ودموعها وحزنها والكتف الذي تتكيء عليه ويسندها. قرأ نوتايدوس كل هذا بعينيها وأراد أن يتقدم ليحتضنها ويرتوي ففي كل لحظة يزداد قلبه ظمأً لها, أونك تعبث به وبروحه وقته طويل جدًا حين تكون بعيدة عنها بعكس قربها لكن مجرد خيالها يؤنس روحه التواقة إليها دائمًا. اقتب منها وتعثرت قدمه بطفل يبدو انه في الثالثة من عمره. لطيف ذو شعر مبعثر بلون العسل ووجنتين شديدتي التورد كان الطفل يجري كأنه خائف من شيء فدخل تحت عباءة اونك المخملية. ثوان وظهر غلمانٌ ضخام يتنفسون بشدة وتعب. غاضبين مقطبين ويدورون برؤوسهم كانت انيابهم بارزة قليلاً واسنانهم حادة، وجوههم يغطيها الشعر الأشهب إلا عظام الخدين البارزة وبعضا من الذقن وكذا اجسادهم يغطيها الشعر تقريباً وظهورهم محدبة نوعاً ما. بدأ احدهم يقترب من اونك ويركز النظر في عينيها. لم تكن عيني اونك توحيان بأي تعبير بل كانتا جامدتين تماماً. على العكس كان نوتايدوس الغاضب من نظرات الغلام والمتعجب من ردة فعل اونك. في ذات الوقت من بعيد كانت امرأة رثة الملبس مبعثرة الشعر، تصرخ بهما أن ينقذا صغيرها. كشر الفتى عن انيابه واقترب اكثر وهو يطلق اصوات مختلفة، عيناه احمرّتا جداً. انقض الفتى على اونك فسارع نوتايدوس بالوقوف امامها، اطبق الفتى فكيه على ذراع نوتايدوس بوحشية ﻻ مثيل لها. خرجت صرخة مدوية من اعماق نوتايدوس فبدت عيناه مضيئتان بشكل غريب. فوجئ الفتى الكثّ الشعر بمنظر نوتايدوس ف ارخى فكيه واستمر بالتحديق بتلكم العينان شديدتي الاضاءة والملامح العنيفة  و الصرخات التي يطلقها برز شريانان حول رقبة نوتايدوس بالإضافة إلى يديه اللتين سرعان ما اظهرتا سخطه على شكل عروق بارزة, مد يداه بعشوائية غاضبة فلطم الفتى على وجهه المتفاجئ والمرتعب والغاضب في ذات الوقت، بينما بدأت جماعة الذئبيون تقترب منهم محاصرين اونك ونوتايدوس. وقفت اونك بثبات بالرغم من المرتعش الصغير تحت عباءتها. تراجع نوتايدوس خطوتان للخلف وهو يرى النفر يتقدم نحوهم. وقف بذات الاستقامة وظهره ملاصق تماماً لظهر اونك، عيناه تزدادان بريقا وكأنهما الشمس والقمر متجاورين في يوم عصيب شديد الحرارة وغضبه يستطرد. استلا سيفاهما، حنيا ظهراهما قليلاً الى الامام متخذان وضع الدفاع والهجوم معًا. إنفسرت اكمام اونك عن ذراعيها ،حدق الذئبيّون بذعر بتلك الحلقة الذهبية الرفيعة المنقوشة التي تحيط بمعصمها. أخذ الخوف يرتقي قلوبهم و حناجرهم. بدأوا بالعواء والتراجع والفرار فهم يميزون هذا السوار تماماً ويميزون الحسام الماثل بكف أونك، فماذا لو اتحدت مع ذا العيون المتوهجة!
عيني نوتايدوس المتوهجة بدأت تخفت وانفاسه الغاضبة والمتسارعة بدأت تهدأ. التفت على اونك مستغرباً فرار اولئك المتوحشون فهم لئيمون بالعادة و ﻻ يتركون احدا حتى يقضون عليه فماذا لو تملكهم الغضب !
ابتسمت اونك براحة وقلبها ينبض بشدة من هول الموقف. ازاحت عباءتها ليخرج الطفل المرتعش بشدة وقد اغتسلت وجنتيه الظريفتين بتيار دمعه. ابتسمت له واحتضنته برفق فغاص في حضنها شاكرًا وخائفًا محتميًا, ربتت على ظهره بيد ويدها الاخرى تعبث بشعره، حين حضرت المرأة وهي تشكرهما باكية على انقاذهما لفلذة كبدها وتغدق عليهما بأنواع الدعوات وطلب البركات لهما. ابتسما لها بالرغم من المشاعر المختلفة التي تخالجهما آن ذاك, دعتهما المرأة إلى بيتها بعد ان وقفت محتضنة صغيرها لتحسن شكرهما فاعتذرا منها حتى رحلت وهي ترفع صوتها بالدعاء.
نظر نوتايدوس إلى اونك بعينين متسائلتين. فهمت اونك ما يدور بخلده قبل ان ينطق به، رفعت يدها اليمنى لتعيد ترتيب خصلات شعرها. سحبت نفسًا عميقًا ثم اطلقته معلنة بدء هدوء النابض بيسارها, دارت عينيها حتى استقرتا على الأرض حين همست مقطبةً جبينها " لست أعلم ! " ابتسم لها نوتايدوس واحتضنها بشدة، يريد طمأنتها وتنظيم دقات قلبه المبعثرة في ذات الوقت. " أونك، انه أمر غريب الذئبيّون ﻻ يفرون هكذا بلا سبب. أرأيتي أعينهم !! محير " لم ترد أونك بل تشبثت بنوتايدوس أكثر وخبأت وجهها في صدره بصمتٍ غريب, اغمض عينيه واتكأ بذقنه على رأسها همست بنبرة ثابتة غريبة بعد انقطاع " نوتايدوس .. أنتَ تُشعرني بالأمان " رفعت رأسها لتلتقي عينيها بعينيه و أكملت " لا تُفلتني أبدًا يا نوتايدوس, قد يكون طلبي أنانيًا .. لكنني حقًا لا أريدكَ أنـ.. " أسكتها نوتايدوس بقبلة على جبينها ثم أردف بابتسامة هائمة " لن افعل، أعدك سأكون معك وبجانبك دائماً. وعدًا علي يا حبيبَتي. "




الفصل الثالث

......
ركل الباب بقدمه اليسرى ودخل صارخاً مناديًا الطبيب, استقبله رجل متوسط الطول و اشار اليه بالدخول. دخل نوتايدوس متلفتًا وقد أصابه الاعياء لكنه لم يأبه لذلك، وضع اونك على السرير الخشبي امامه وهي تأنّ وبالكاد يخرج صوتها وانفاسها متذبذبة. التفت نوتايدوس للرجل الذي كان يقف على مقربة منه ويحدق بأونك بشكل غريب. ارتفع صوت نوتايدوس " أين الطبيب ؟ أليس هوأنت ؟ إفعل شيئاً أرجوك ! " تحرك الرجل من امامه وكأنه قد استيقظ من حلم على صوت نوتايدوس. اخذ يفحص جراح اونك تارةً ويضع ظاهر كفه على جبينها تارة، ثم يتحسس نبض قلبها تارة اخرى. التفت إلى نوتايدوس ونبرة الرعب في صوته " يتوجب عليك مساعدتي .. مالذي حدث ؟ أكانت في معركة ؟ " ارتفعت نبضات نوتايدوس وكأن طبول الحرب تدق داخل جسده المرتعش، لمعت عينيه وعقد حاجبيه. غاص صوته وهو يهمس وقد بدأت طاقته تنفد " ماذا افعل ! " امره الرجل ان يحضر الملاءة القريبة ويبادر بتنظيف جراح اونِك جيداً بينما يبحث هو عن الاعشاب اللازمة. اخذ الرجل يتحرك بسرعة وهو يعبث بالقناني العديدة المنتشرة ويبحث في الاواني المغطاة، إلتفت الرجل إلى نوتايدوس بنصف ابتسامة غريبة وهو يخرج كيس قماشي صغير من جيبه يحتوي أعشابًا  قليلة ثم طحنها في اناء صغير وأضاف عليها بضع قطرات من سائل بنيّ اللون. بدأ بتمتمة كلمات غير مفهومة، ثم رفع رأس اونك بيده اليسار وهو يميل عليها وامسك بالإناء بيده اليمنى وبدأ يسقيها المزيج حين عادت تأنّ بصوت ضعيف مع تحريكه, إلتفت نوتايدوس إلى الطبيب فأردف مطمئنًا " سيُساعد على خفض الحُمى .. " أحضر قطعًا من القماش و بدأ بمنقوع الماء البارد مع مسحوقٍ عشبيٍ أخضر. حين انتهى نوتايدوس من تنظيف الدم حول جروح أونِك, بدأ الطبيب بتضميد الجروح بوضع كمية من أوراقٍ خضراء و صفراء على جروحها ثم لف قطع القماش المنقوعة في محلول الأعشاب حول جروحها قدر المستطاع, عاد لتحسس أنفاسها حين خفت أنينها تمامًا, فتقدم أكثر فزِعًا ليرفع رأسها وهو يهذي بكلمات غير مترابطة " لا .. لـ .. كان يجب .. لاا .. هيا, هيا عودي .. " سكت نوتايدوس لبرهة وتراجع إلى الخلف اختلّ توازنه وهو يستعيد أحداثاً ماضية في طفولته .. كان صغيراً ضئيل الحجم، ذا شعرٍ كثيف بندقي، تتطاير بضع خصلات عشوائياً من مقدمة رأسه إلى الاعلى. عيناه المميزتين بلونيهما المحصنتين بين خطّي أهدابه الكثيفة، أنف صغير مستدق ظريف وشفتين مرحتين تخبئان أسنانًا متفرقة. كان نوتايدوس في صغره مرحًا جداً ويحب اللعب كثيراً ولكن في محيط منزله فقط. لم يكن يحبذ الخروج من منزله كثيرًا فقد كان إمّا محطّ سخرية او رعب بين الأطفال بسبب عينيه. أحب والديه كثيراً فهما الذان تركا ديارهما لاحقاً لينتقلا إلى أرض التلال من اجله. انتقلت ذاكرته إلى مشهد مؤلم حيث امرأة مسجّاة أمامه تتلوى وتعتصر وتأنّ وهو ﻻ يملك إلا ان يمسح الدموع المنسكبة بغزارة من عينيها بيديه الصغيرتين ويشهق بشدة مع كل أنّة تطلقها, تبتسم له وتحاول جهدها أن تنهض لتضمّه وتشمّه, لكن الألم أقوى منها فتبكي بعجز و تظل تبتسم.

إستيقظ على صراخ الرجل الماثل أمام أونك. اقترب نوتايدوس ببطء وامسك يد أونك هامسًا " اونك ! افتحي عينيك، ارجوكِ أونك! يكفي مزاحًا. أونك انتي تعلمين جيداً أنني أحتاجك هنا معي. حبيبتي! هيّا افتحي عينيك انظري إلي ! ﻻ تذهبي معهم أونك !! ارجوكِ ﻻ تتركيني وحدي .. " قطب جبينّه و الدموع تحاصر عينيه, غصّة شديدة خنقت أنفاسه, شعر و كأنما يدٌ قبضت على قلبه فعصرته .. أكمل بين شهقاته " ألم نتفق على أن نبقى سوية !! عند التلال القزمة .. اتفقنا .. وقطعنا عهدنا يا أونك ! أنسيتي ؟ هيا أرجوكِ يا حبيبتي .. كل شيء سيكون بخير, إفتحي عينيكِ فقط .! أونك .. سوف أغضب بشدة .. أنا أحذركِ !!! " ضمّ جسدها المرتخي إليه بشدة وهو يصرّ أسنانه و يأنّ, دفن وجهه بين خصلات شعرها ثوانٍ ثم رفع بصره إلى الرجل بعينيه الغارقتين " سوف تستيقظ أنا اعلم ذلك, لكن .. أرجوك .. إفعل شيئاً ! ألا يفترض بك أن تكون طبيبًا .. هي ﻻ تحتاج إلى معجزة ، جراحها بسيطة .. هيا تصرف ! " زادت ارتباكة الطبيب فبالرغم أنه لم يرفع عيناه عن أونك أبدًا إلّا أنه شعر بغضب نوتايدوس بالرغم من دموعه اﻻ ان تقطيبة جبينه والعضلات المشدودة بوجهه ﻻ تبشران بالخير أبداً. تحدّث الطبيب بثبات و عينيه ثابتتين على اونك بنظرات غريبة " لقد فعلتُ كل ما بوسعي, لست اعلم ماذا سيحصل بعد ذلك .. جراحها عميقة, لقد تأذى جسمها بفعل رضّات وكسور عنيفة ! يبدو أنها هوجمت لتموت .. " قال جملته الأخيرة بجمود بينما أمعن نوتايدوس النظر إلى وجه أونِك الشاحب و أمال وجهه ناحية أنفها و فمها ليتحسس أنفاسها بحركات سريعة فزعة. انخفضت نبضاتها كثيراً, للحد الذي جعلها غير مسموعة .. او ربّما كان قلبها قد توقف ! صار يهزها وهو يهمس بكلمات غير مترابطة، فهو ينادي تارة ويصرّح باحتياجه وحبه لها تارة ويعتذر تارة اخرى. كانت اونك تتحرك بين يديه كدمية قديمة بالية, وقد عاودت جروحها النزيف حين هزّها بعنف وهو يصرخ عليها بأن تستيقظ. حاول الطبيب ابعاده عنها لكن نوتايدوس قوي جداً ويديه تتشبثان بأونك بقوة، كطفل صغير يتشبث بدميته و يحميها, لم يكن يشعر بالأمان, فحاول رفعها ليأخذها معه خارجاً, منعه الطبيب مبررًا بأنه خطر عليها فهي تنزف, و بأنّه ضد القانون و أن المسؤولية و العواقب ستقع على عاتقه هو إن تركه يذهب بها. لم يكن نوتايدوس واعٍ لمَ يقوله الطبيب أبداً, فأذناه لا تسمعان إلا نبضاته التي تقرع كما طبول الحرب في رأسه, وعقله لا يفكّر إلا بأونك, سيأخذها لطبيب أكثر مهارة فينقذها. " أنت ﻻ تفهم .. أنت لن تعرف من هي أونك ! " صرخ نوتايدوس بهستيريا وكأنه بهذه الكلمات قد برر موقفه, من أجل أونِك يصير الممنوع مسموحًا له. مازال الطبيب متمسكاً بموقفه, ويبدو أنّه لا مفر مما سيفعله, لذا إنحنى بسرعة ليلتقط عصًا من أسفل الطاولة التي تقع في منتصف الغرفة, ليضرب به رأس نوتايدوس من الخلف فيُسقطه ممددًا بجانب السرير . جلس الطبيب ليسترد أنفاسه بعد أن سحب حبلا قصيراً كان بين الجدار والادراج, نهض ليلقي نظرة على نوتايدوس الممدد و سائلٌ قرمزيُ اللون ينتشر أسفل رأسه, و أونِك على السرير و قد إمتلئت ضماداتها دمًا. تقدم منها ببطء وقد خُطف لونه, ينوي التأكد من أن نوتايدوس لم يفسد مفعول المزيج الذي سقاها إياه. أفزعهُ صوت طرقٍ مزعجٍ لحوح على الباب الخلفي. سار ببطءٍ وحذر, أطلَّ من شق في منتصف الباب بتمعن ثم فتحه. دخل رجلين شديدي الضخامة، أحدهم كان كثّ الشعر ذا عينانِ حمراوان. حدّق الآخر بالطبيب هاتفًا بصوت أجشّ " ماذا تريد يا كوريدو ؟ أرجو أن يكون الأمر طارئًا ويستحق النداء هذه المرة ! فالسيّد غاضب لأنك قد تخلفت عن الحضور الليلة و بالكاد تسللتُ أنا و شلين " لم يكن كوريدو بحال يسمح له بالجدال ولا الكلام, فأشار لهم بيده أن يتبعاه. سارا خلفه من الباب الخلفي مروراً بممر قصير على جانبيه اربعة غرف ذات أبواب خشبية رثّة وأخيراً دخلوا الباب الساكن في آخر الممر حيث توقف كوريدو متصنمًا عندما فتح الباب لهما. حدّق الآخريَن في المكان الذي تعمّه الفوضى نسبياً. غرفةٌ مربّعة، تحيط حوائطها رفوفٌ ملئى بالأواني والقناني والبرطمانات المملوءة بأعشاب وسوائل مختلفة و المحاليل غريبة الألوان, على الحائط الأيمن دُرجٌ يحتوي الكثير من المعدّات الطبية و الأوراق. وعلى الحائط المقابل لوحةٌ قماشية رُسِم عليها رجلٌ عجوز. في منتصف الحُجرة استقرت طاولة خشبية مربعة اتسخت ببقع من المحاليل و الدماء, و ملاءات تحولت إلى اللون الأحمر بسبب الدم. لا يبعد عنها سريرٌ خشبي قد تلطّخ ببقع من الدم إستقرت بجانبه عصًا كبيرةً ملقاة بقرب بقعة من الدم. إلتفت إليهم كوريدو وعينيه متسعتين بفزع " ل .. لققد كانا هنا ! هنا تماماً ! " توجه نحو السرير " كانت ضعيفةً جدًا .. وقد أرديتُه بضربة فسقط ـ! كيف يختفيان ! " اخذ يتحدث بجملٍ غير مترابطة وهو يمسك برأسه ويسير جيئةً و ذهابًا بتوتر وتشتت, في حين خاطبه الرجل الآخر بجمود شديد " كوريدو .. أهذه مزحةٌ ما ؟ عمّا تتحدث ؟ " ارتفع صوته صارخاً " اللعنة .. أين اختفياااا !! أنظرا .. هذا السرير هنا .. هيَ كانت هنا, هذه دماؤها ! وهنا .. كان هو ملقىً !! سددتهُ ضربةً على رأسه فنزف هنا .. هنا تمامًا !! " مشى بسرعة وخرج من الباب المفتوح سار في الطريق أمامه وهو يبحث عن اي اثر عاد ثم سار في الطريق الآخر إلى أن توقف في نقطة ما واخذ يتلفت يمنة ويسرة وهو ممسك برأسه بين يديه. عاد إلى المنزل من حيث خرج بينما كان الرجلان يهمان بالخروج و الغضب يتأججّ بداخل الجميع, استرسل بالحديث والجمود يلفه. " أونك و وحش الحدائق المسمى بنوتايدوس، كانا هنا. " حدق الرجلان بكوريدو وكأنهما ينتظرانه لاستكمال حديثه, استرسل كوريدو بحديثه بين ضحكٍ و تعجّب و خوف "  لقد كانت اونك مصابة جرّاء عراكها مع شقيقك يا شلين, لكنها لم تكن فارقت الحياة بعد، لذا سقيتها المزيج الذي يسبب الموت التدريجي .. الذي علمني إياه ايثيل .. بينما كان ذاك المعتوه يصرُخ ويحاول اخذها , لقد كان يصرخ وينتحب بشدة ارعبتني لأصدقكما القول .. انه فعلاً غريب الأطوار !! لم احتمل عويله كالنساء فأرديته بضربة بهذه العصا  " أشار كوريدو إلى حيث العصا الخشبية تقع بجانب بقعة الدم على الأرض" ضربته بها فسقط من فوره. لست أعلم لم هو مصدر تهديد وهو بهذا الضعف والوهن, فانتحابه على أونِك بالإضافة إلى أنّ ضربة واحدة أوقعته بالرغم من حـ.." قاطعه شلين بصوت يشبه صرير الرياح بليلة باردة "اصمت .. " سحب نفسًا عميقًا ثم أغمض عينيه ليعود ويفتحهما بعد ثانيتين ثم  نظر بعينيه الحمراوين من تحت حاجبين كثيفين إلى رفيقه الواقف بجانبه " ألم أخبركم بأن هذا الطفل الأرعن عديم الجدوى ! " اعاد النظر إلى كوريدو و أكمل بجمود " لم تكن ذا نفع لنا أبداً .. بل على العكس، دائماً ماكنت جالبًا للمشاكل والمتاعب, أنت ﻻ تستطيع اتقان اي شيء ! ﻻ ادري لم السيد مصر على وجودك بيننا ! ألم يخطر ببالك أن تضع دائرة الحماية حولهم ! أليس هذا ما يتوجب عليك ان تفعله اول مرة , كما تعلمت ! " ترنّح كوريدو و جف ريقه بينما اسنانه تصطك بقوة و أردف بصوتٍ هادئ " لقد نسيت هذا تماماً, بسبب وحش السيرك نوتايدوس .. أخبرتكما انه كان يصرخ بهستيريا ولم يترك لي فرصة للتفكير بالكاد صنعت المزيج !" سحب شلين نفسا عميقاً وضم كفه اليسار بيمينه وهو يتحاشى النظر إلى كوريدو حتى لا يحطمه بقبضته، إنتقل بحديثه إلى رفيقه الذي ﻻ يقل عنه غضباً. " دايلوس، تأكد من مزيجه السحري. فأنا ﻻ أثق بهذا الفأر. " تحرك دايلوس منفذًا اوامر شلين واطال التأكد وهو يعيد الفحص ثلاثة مرات, إلتفت إلى شلين بعد المرة الرابعة وأشار إليه بأنَّ المزيج صحيح تماماً , بل وفتاك! احتار الجميع وهتف شلين أخيراً " لو رسمت الدائرة لما حدث ذلك ياكوريدو. أنت غبي وعار على عشيرتنا ، سأفعل مابوسعي لأخرجك من بيننا يا كوريدو. وعدًا علي " وخرج غاضبًا بعد جملته تلك , بينما تصنّم كوريدو. رمقَ دايلوس كوريدو بخيبة " أنتَ لن ترتاح حتى تقضي على حياتك وحياة عائلتك يا كوريدو ! " وخرج خلف رفيقه.
وقف كوريدو للحظات وهو ينظر في المكان الذي اختفيا منه, اختلّ توازنه وهو يلعن نفسه على كل لحظة فكر بها في الدخول في هذه الجماعة الشرسة. لن يكون إلا سبباً في المشاكل لأهله. لم يكن هذا ما أراده أبدًا كان باعتقاده أنّه سيثبت لوالده و لسكان الأرض المعلقة أجمع بأنه قادر و بارع. عض شفته السفلى وعقد حاجبيه والغضب يزداد طرديًا مع شده على قبضتيه و إرتعاشة جسده. طأطأ برأسه و همس لنفسه من بين أسنانه " شراين , نعم شراين هو السبب. " رفع رأسه والغضب يتأججّ بداخله  " سـ.. سوف أنتقم منهم جميعًا " نهض و اخذ يصرخ بهستيريا ويهدد بالإنتقام والويل والثبور.






الفصل الرابع

فتح عينيه بإجهادٍ شديد فلم يكن قادرًا على رؤية شيء ولا على تمييز الأصوات المحيطة به بسبب طنين شديد يخترق رأسه. حاول النهوض فأرغمه شيئًا ما على صدره بالإستلقاء مجددًا. لا يزل لا يستطيع رؤية شيء بوضوح بالإضافة إلى أنّ الضوء يزعج عينيه. رفع يده ليغطي عينيه فلم يقدر كان يتألم مع كل حركة وكأن عظامه دُقت تمامًا. إنتبه أخيرًا للصوت الذي أتاه من خلفه بالرغم من الطنين المزعج. خاطبه الصوت المرتجف: " هل تسمعني يا بني ؟ أبإمكانك سماعي ؟ " ابتلع الآخر ريقه بصعوبة وهو يحاول الرد. أسرعت إليه يد تحمله لتساعده على الجلوس و شرب كأسٍ من الماء. أجاب بعد برهة قصيرة متلعثمًا وقد شرب ثلثي الكأس و الباقي سُكب عليه فقد كان ضمآنًا جدًا.

"ما إسمكَ يا بني؟ " استغرق بعض الوقت ليرفع رأسه و يرد " نـ .. نوتتـ..ـايدوسس " ابتسم له الرجل وهتف بصوته المرتجف بينما كان يقترب من نوتايدوس ليربت على كتفه بحنو " أوه, حسنًا, يانوتايدوس ! يمكنك أن تدعوني ميل العجوز كما أُنادى هنا بالجوار .. إستلقِ الآن يا بني .. مازلت بحاجة للراحة فهذه الأجراس ستواصل الطنين .. و بالمناسبة, أنا أعتذر منك , فأنت بحاجة للراحة لكنك تسمع هذا الطنين المزعج لأن منزلي يقع خلف برج الجرس. " لم يكن نوتايدوس قد فهم تمامًا ما يقصده العجوز فشحُب وجههُ وقد بدأ يعيى مجددًا. نهض ميل العجوز ليمسكه و أمر شخصًا كان يقف خلفه بأن يحضر له الطعام ليتزود به. بينما كان نوتايدوس كذلك إذ اعتُصر قلبه فجأةً ففتح عينيه باتساع و خطت دمعة يتيمة مسارها على خده حين همس ببحة متوجعة " أونك ! " رفع رأسهُ إلى العجوز ليسأله " أونك .. أيها السيد أين هيَ أونك ؟ "
-       " إستلقِ الآن يا بنيّ, يجب أن تستعيد عافيتكَ .. لا تجهد نفسك بالكلام "
-       قاطعه نوتايدوس : " أرجوك أخبرني أين هيَ ! أريد أن أراها .. "
-       " لستُ أدري عمّن تتحدث يا بُني .. لستُ أعلم من هي أونك ! " 
أخذت الشهقات تعلو بينما استمر بترديده إسمها و انه يريد أن يراها. دفن رأسه بين يديه و انتحب كالطفل, ظل العجوز ميل يراقبه بصمت ولا يعلم ما يفعل أو يقول, فقد كان دائمًا ما يصرخ باسمها ويبكي بصوتٍ مرتفعٍ أثناء نومه. تماسك و سكن بعد مهلة ثم رفع رأسه ومسح وجهه المبتل بالدموع, سحب كمية من الهواء ثم زفرها مصحوبة بتنهيدة عميقة .. تأمل المكان حوله, غرفة متوسطة الحجم ذات حيطانٍ بيضاء مقوسة, اخشاب متناثرة , و سقف مقوس مرتفع قليلًا. نافذتان عريضتان متجانبتان و قد تسللت خيوط الشمس الذهبية من بين اخشابها. كانت الغرفة فارغة تقريبٍاً ولا شيء يدل على أنّ أحدًا قد عاش هنا منذ مدة طويلة. أخيرًا وقع نظره على العجوز الذي يجلس مقابله بيده كأسٌ خشبيٌ فارغ, بينما كان يرتدي ثيابًا رثة وشعره أبيض تمامًا وشاربيه مفتولين ويشوبهما خيوط من السواد ولحيته الكثيفة كذلك. كانت عينيه البندقيتين حادّتين ومألوفتين. يجلس بجانبه شابٌ بشعر أسود وعينين كعيني الرجل العجوز وعظام وجنتيه بارزتين وذقنه مستدق, لكن وجهه كان يخلو من الشعر وبنيته بدت ضعيفة. بل أن شكله كان غريبًا تمامًا لنوتايدوس. توجه بحديثه للعجوز عاقدًا حاجبيه وكأنه قد استوعب لتوه. " أين أنا ؟ ومنذ متى كنتُ هنا ؟ بل كيف أتيت ؟ أنا لا أذكر أية أجراس في مدينة التلال كما أن البيوت في مدينتي لا تُبنى هكذا ! " ابتسم العجوز ودفع الطاولة القصيرة أمامه بهدوءٍ إلى نوتايدوس " هلّا تناولت طعامك أولًا يا بُني, فأنت قد استيقظت للتو وجسدك هزيل, سنتحدث لاحقًا بهذا الشأن. يتوجب علي الرحيل الآن فقد تأخرتُ عن عملي, أراكَ لاحقًا يانوتايدوس " قال جملته الأخيرة وهو يقف ليخرج تاركًا نوتايدوس يخوض في غمار أسئلته وحيرته.
أخرج أنّةً من كهف صدره تبعتها بضع دمعات صامتة, عاد للإستلقاء فراح سيل دموعه ينهمر بلا حولٍ منه ولا قوة. كانت اونك تداهمه بشدة فأغمض عينيه واذا به يراها بكل وضوح ويرى ابتسامتها, عينيها الواسعتين ونظرتها إليه يراها تضحك وصوتها العذب يداعب أذنيه وينادي قلبه, فتح عينيه فلم يرى سوى الخواء. انقلب على يمينه وانكمش على نفسه .. عقد حاجبيه, فهو مازال يسمع صوتها يناديه, تلفت مجددًا ثم عاد للجلوس و صار يخبر نفسه بأنه لن يفقد أونك كما فقد والدته من قبل. يشعر بألم قاتل في جوانب قلبه وشهقاته تخترق روحه وكأنها ستغادره هي الأخرى. مرت تفاصيل أونك على قلبه قبل عقله, لم يكن بيده أن يفعل شيئًا ليوقف هذه الخيالات .. فجزءٌ منه يتألم و الآخر يتلذذ بهذه التفاصيل و كأنما توقد طاقته.




الفصل الخامس


دارت بعينيها بين الحشود حول التلة الضخمة, الكل يرتدي ألوانًا خضراء وزرقاء وبيضاء. انه مهرجان الحياة الذي يُقام سنويًا في منتصف فصل الربيع حول التلّة الضخمة والتي ينبت على قمتها اقدم شجرة سنديان في البلاد كلها. بحثت عنه بين المحتفلين أمام التلة , لقد اتفقا أن يتقابلا هنا منذ مدة مضت. شدت عبائتها المخملية بلون الكحل حين لفحتها نسمات باردة , قررت أن تطلق ساقيها وتلقي نظرة حول التلّة , دارت حولها مخالطةً الحشود , وقد تقف عند الباعة المتجولين قليلًا. نظرت إلى ثوبها الخمري الذي يعانق تفاصيل جسدها و نقوش ذهبية تنتشر على جانبه لتتسلق خاصرتها اليمنى وصولاً الى كتفها, الذي يختبئ أسفل عبائتها. رفعت عينيها بتملل حولها واثقة جدًا أنه سيظهر فليس من شيمه إخلاف الوعود ! صعدت أعلى التلة علّها تراه بوضوح من الأعلى، سوف تتعرف عليه بسهولة بسبب طوله الفارع وشعره الكثيف المبعثر, و الاهم عينيه, لكنها لم تره. عاودت النزول بخيبة حين بدأت الحشود تتسلق ليهتفوا بنقائهم ويصرخون باسم من يحبون حاملين حقائب قماشية متناهية الصغير معقودة بخيوط كتانية و تحتوي أشياء مختلفة, قد تكون حلي, رسائل , قطع حلوى, أو بكل بساطة حفنة تراب و ورق شجر , مع أي شيء يخصهم ويودون تخليده, هذه إحدى طقوس الإحتفال .. شاهدت الرقصات المحلية لسكان مدينة التلال وضحكت كثيرًا فقد كان عجوزين يرقصان سويًا كأنهما شابين ويعانقان بعضيهما حين يتعبان ويجلسان ثم يقومان لإكمال رقصتهما بمهارة و استمتاع .. لم تقاوم ابتسامتها حينما تخيلت نوتايدوس عجوزًا واتسعت ابتسامتها لمّا لاح بخيالها شكلها طاعنة بالسن وتتأمل عينيه المختلفتين.
كان الراقصون يدورون بجماعات من خمسة أفراد وهم يغنون. الجميع هنا وليس بشرًا فقط, الكل يتحدث مع الاخر ويرقص ويغني ولا فرق بينهم. ربما هذا ما تحبه في هذه المدينة فالكل هنا واحد.
بقيت على حالها جالسةً بجانب الباعة و تتأمل الأفواج المتجمهرة بانتظار بدأ العرض, أشغلت نفسها بإعادة تسريح شعرها المظلم على شكل جديلة تستقر على كتفها الايسر. بدأت الشمس بالغروب و راح الناس يصعدون التلة متجهين نحو الشجرة العجوز الضخمة ليعلقوا عليها الحقائب القماشية لتخلد ذكراهم فيربطونها بخيوط الكتان حول اوراق الشجرة العجوز, إنهم يؤمنون أنه هذه الحقائب التي تحوي جزءً منهم تعمل على استحضار قوة الشجرة, فتمدهم بشيءٍ من طاقتها و قوتها و تطيل اعمارهم و ينعمون بالرخاء و الخصوبة لأراضيهم. هاهو صانع المفرقعات ذا القبعة الغريبة المدببة قد حضر بعربته مبتخترًا, وسوف يبدأ عرضه المبهر, سار حاملا مفرقعاته الضخمة وبدأ يصفها في حواملها. نظرت حولها واغرورقت عيناها, فاتهما الكثير , و هو قد أخلف وعده ولم يأتي حتى الآن ! لم يتوجب عليها التأنق هكذا ! فهو لن يرى زينتها بأية حال. حين بدأ الحشد يشجّع ويهتف بحماس ويلتف حول صانع المفرقعات لمشاهدة عرضه , شعرت هي بالاختناق .. فبالرغم من روعة مشهد الألعاب النارية ذات الأشكال المختلفة التي تبدو كأنها تروي قصصًا مشتعلةً في السماء الحالكة الزُرقة , هذا المشهد لا يتكرر إلا في مناسبات نادرة ويتعنى له الجميع من أقصى الأرض المعلقة وأدناها لحضوره و مشاهدته فقط. لكن هذه اللحظات الجميلة بالنسبة إليها لم يكن يجب أن تقضيها وحدها, كان يجبـ.. داهمتها يدان قويتان من خلفها وجذبتها ممسكة بخصرها النحيل , طُبعت قبلة على وجنتها. ابتسمت حين لمحت عينيه المميزتين وقد زاد تميزهما في ضوء المفرقعات وسرعان ما زالت ابتسامتها , حين تذكرت انها قضت اليوم بطوله وحدها. دفعته بيديها معاتبة " ألم تخبرني أن آتي إلى التلال الكبيرة اليوم ؟ لقد وعدت أن تكون هنا لكنك أخلفت وعدك ! " أشاحت بوجهها عنه خجلًا أشد منه غضبًا لمّا صار يتأملها و الإبتسامة لم تفارق شفتيه " لم أكن أقصد هذه التلال " التفتت عليه بعينين متسعتين " وأين هي التلال الكبرى يا نوتايدوس ؟ لست أرى تلالًا كبيرة هنا سوى هذه التلال ولا تُعرف أيّ تلال بهذه الاسم سوى هذه التلال ! " ركز نوتايدوس بعينيها ووقف مقابلًا لها وابتسامته تتسع أكثر وهو يتحدث بعكس غضبها المستشيط " هذه تُسمى بالتلال الضخمة يا جميلتي وتلك هناك هي التلال الكبرى التي إنتظرتك عندها منذ الصباح " أشار إلى ثلاثة تلات متصلة وقد اختفت ورائها الشمس الحمراء. ثم أردف بضحكة خافتة " ألا تعرفي أهم معالم بلادك ؟ " نظرت أونك حيث أشار ثم انفجرت ضاحكة " إنها تلال قزمة يا عزيزي "

سحبها نوتايدوس من يديها وهي تصرخ طالبة منه ان يبقى ليشاهدا معًا ما تبقى من عرض الألعاب النارية , لكنه أمسك كفيها بقوة و أسرع في مشيه حتى وصل إلى مكانه المنشود. إبتعد عن وجهها حتى ترا ما اعده لها بينما انحنت لتلتقط أنفاسها " قضيتُ مدةً طويلةً اُعدُّ هذه المفاجأة , لقد كنت اريدك ان تريها في هذا الوقت تمامًا , بما أنّني لم اقدر ان اصبر دعوتك مبكراً لكن الحظ كان حليفي ليصير ما أردته ، أتمنى أن يعجبك" قال جملته الاخيرة وهو يحك مؤخرة رأسه بحيرة, بينما تقدمت أونك ببطء شديد وهي مذهولة تماماً وعينيها أُخذتا بما تراه. انواع من الازهار المضيئة الراقصة الملونة تنتشر لترسم شكلاً غير واضح المعالم. إلتفتت إليه وعينيها تغرقان فمسح على وجنتها هامسًا قبل أن تنطق هي "ليس الآن يا حبيبتي. تعالي معي لتريها بوضوح. " احاط كتفيها بيده اخذًا إياها إلى أعلى التلة , وهي صامتة وقلبها يصرخ عنها. سارا معًا بصمت إلا من صوت أنفاسهما بينما يصعدان التلال على ضوء النجوم المشعة في بطن السماء المتشربة بالزرقة الدامسة, واصوات اجراس الازهار الرنانة في الحقل أسفلهم , بفعل النسمات الباردة التي تراقص الازهار , بينما كانت اغاني سكان المدينة مختلطة بالنغمات الساحرة لفراشات الضفة الغربية للنهر. خلقت هذه الاصوات معًا معزوفة بديعة داعبت أذنيهما. صعدا فوق التلة, ازدادت دهشة أونِك و أُخذ عقلها حين رأت مفاجأة نوتايدوس لها. همس نوتايدوس بنبرة غريبة " هنا .. كانت تحضرني أمي في صغري .. كانت تقول لي بأن هذا الحقل الصغير سيكون متنزهنا .. أخبرتني أنها ستحذر الأزهار الرنّانة من المروج البعيدة و تزرعها بنفسها, حين تقع امرأة أخرى في حبِّ عينيّ كما فعلت هي ! لكنها .. " بدأ صوته يرتجف و ينحدر فابتسم والتفت لتلتقي عينيه بعيني أونِك التي كانت تنصت إليه بقلبها قبل أذنيها " كانت لتحبكِ كثيرًا .. كما أحبكِ أنا يا أثيرتي " انهمر تيار دموع اونك التي مازالت تلتزم الصمت , ثم غاصت برأسها وجسدها في صدر نوتايدوس وشهقاتها تتعالى , رفع رأسها و طبع قبلةً طويلةً على جبينها " كفكفي دموعكِ يا حسنائي .. أريد أن أرى لآليء ثغرك تتبسم .. " ابتسمت بين دموعها و فؤادها يكاد ينطق بحبها له , ثم اعادت النظر إلى المنظر الذي سلب قلبها وأخذ لب عقلها. دائرة من ازهار زرقاء مضيئة مصفوفة بعناية يتوسطها دائرة من الازهار البيضاء المضيئة كذلك, يتراقصن جميعهن و يصدرن أصواتًا رنّانة. ابتسمت أونِك و سحبت نفسًا عميقًا لتشتمّ عبير الزهور الأخاذ .. ذكرى لقائهما الأول عند النهر ليلة اكتمال القمر لقد وعت أونِك ذلك تماماً. ضمّها نوتايدوس إلى صدره وعيناه تضيئان طرديًا مع الأزهار وقد مُسحتا بدمعه : 
- " هذه اللحظة ملكي لأكون أنانيًا .. أخبريني أنكِ ستبقين بجانبي .. و لن تتركينني يوماً  "
-
  " أعدك بذلك، ستتملك قلبي ماحييت. " 
-
 " سأحافظ على قلبك واحفظك بداخلي، أعاهدك حبيبتي."
فجأة, زُلزلت الارض من تحتهما .. تصدّعت وسقطت أونك من بين يديه , صرخ محاولًا الامساك بها , لكن الارض ابتلعتها والتئمت واختفى كل ما حوله.

صيحة مدوية تبعها ألم شديد, فإغماءةٌ مجددًا.




الفصل السادس


فتح عينيه فوجد نفسه يصرخ ويتصبب عرقًا في ذات المكان الذي تركه فيه العجوز, وقف الفتى النحيل يحدّق به فزِعًا. حاول أن يتحدث لكن ريقه قد جف ولم يستطيع ان ينبس ببنت شفة. أشار للفتى بأنه بحاجة للماء , أسرع الفتى نحو إناءٍ فخّاري ليغترف الماء. تناول الكأس و شرب الماء دفعةَ واحدة ثم حاول تهدئة أنفاسه المتسارعة , أخذ نفسًا عميقا في محاولة لتهدئة قلبه المرتعب وكأن طبول الممالك الثلاث تدق داخل جسده. حاول نوتايدوس الوقوف وسرعان ما سقط , حاول تارة أخرى و سقط مجدداً. امسك به الفتى واخبره بتلعثم بأن يرتاح ويأكل فلا طاقة لديه أبداً. رفع نوتايدوس عينيه عليه عاقدا حاجبيه.
-
 منذ متى وأنا هنا وماهذا المكان ؟ كيف أتيت إلى هنا ؟
ابتعد الفتى بسرعة وتعثر ببقايا مقعد وأعاد الوقوف وهو يعطي نوتايدوس ظهره، كرر نوتايدوس أسئلته بحدة اكثر فتلعثم الفتى و اضطرب.
-
 آاا .. آمم .. ل .. لسست أعلم .. آممم اسبوعان , ر.. ربما ! لست أدري لست أدري.
خرج مغلقاً الباب خلفه تاركاً نوتايدوس محتارًا. حادث نوتايدوس نفسه " ما بال هذا الطفل ! يبدو أن عيني أرعبتاه .. آخ , انا متعب جداً. " سحب الطاولة القصيرة التي تحتوي طبق من الجبن المذاب الساخن وقطعة من الخبز وكوب حليب. أكل بشراهة وعقله فارغ من كل شيء . ما إن أنهى طعامه وشعر بطاقته بدأت تعود إليه تدريجيًا حتى وقف متفحصًا المكان حوله، لا يستطيع رؤية شيء من خلال الفتحات في النافذة. اتجه للباب لكنه كان موصدًا من الخارج , تعجّب من هذا الفعل , أيحاولون حبسه أم أنّ هذه غلطة ما ! حاول فتح الباب مراراً وطرقه وركله و نادى لكن مامن مجيب. اتكأ على الباب بظهره. حاصرته الذكريات مجدداً فهاهو يرى أونك ويسمع صوتها ويرى إبتسامتها الشقية، ظفيرة شعرها وبلاغة كلماتها, عيناها وحضنها. إستسلم لسيل الذكريات التي انصبت عليه لاجمةً إياه وتاركتةً إياه ليتألم وينقبض قلبه، انكمش على نفسه بجانب سريره الخشبي الخشن وهو ينادي أونك بهمسٍ ضعيف.

هناك تعليق واحد: